الثلاثاء، 22 يناير 2013

أدبيات اقتصادية



أدبيات اقتصادية

يقول الأديب الثعالبي أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل في كتابه البديع ((اللطائف والظرائف)) في شأن مدح المال:
مدح الله تعالى المال وسماه خيراً بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ [البقرة: 180] أي مالاً، وبقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8] أي المال.
ويروى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان يقول: حبذا المال أصون به عرضي وأقرضه ربي فيضاعفه لي، يريد قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245].
وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز اسمه ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ [هود: 52] أي مالاً إلى مالكم، وكان رضي الله عنه يقول: قد يشرف الوضيع بالمال.
يقال: المال يكسب أهله المحبة، لا مجد إلا بمال ولا حمد إلا بفعال.
وقيل: الآمال مشغولة بالأموال، وقال أحد الشعراء:
كل النداء إذا ناديت يخذلني
إلا نداي إذا ناديت يا مالي.
ولأبي العتاهية:

قد بلونا الناس في أحوالهم
فرأيناهم بذي المال تبع.
وقال آخر:

شيئان لا تحس الدنيا بغيرهما
المال يصلح منه الحال والولد.
زين الحياة هما لو كان غيرهما
كان الكتاب به من ربنا يرد.
يعني قوله جل شأنه ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46].
كان يقال: أصل السؤدد والرياسة المال، وبه تستجمع أسبابهما وتطرد أحوالهما، وقد انقاد الناس حديثاً وقديماً للغنى.
ولذلك حكى الله تعالى في أمر طالوت عن ملكه عليهم فقال: ﴿إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ [البقرة: 247].
وجاء في ذم المال، قوله عز وجل: ﴿إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 28].
يقال: المال ملول، والمال ميال، والمال غادٍ ورائح وطبع المال كطبع الصبي، لا يوقف على رضاه وسخطه.
وقيل: المال لا ينفع ما لم يفارقك.
وقيل: قد يكون مال المرء سبب حتفه، كما الطاووس قد يذبح لحسن ريشه.
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول ابن المعتز:
ألم تر أن المال يهلك ربه

إذا جم آتيه وسد طريقه.
ومن جاور الماء الغزير بجسمه

وسد طريق الماء فهو غريقه.

وخير ما نختم به هذه الاختيارات حديث رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))، الذي يحسن طريق جمعه، كما يحسن طريق إنفاقه واستهلاكه.

جاء في كتاب: ((اللطائف والظرائف)) للثعالبي في شأن مدح التجارة قوله رحمه الله:
ذكر الله تعالى التجارة في القرآن، حيث قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾ [النساء: 29].
وقال عز اسمه: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275].
وقال جل ذكره ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [ المزمل: 20 ] وجاء في صحيح البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطيب ما يأكل الرجل من كسبه)) والكسب: التجارة. قال صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)) وقال كذلك: ((تسعة أعشار الرزق في التجارة)).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم برهة من الدهر تاجراً مسافراً، وباع واشترى حاضراً، واشتهر أمره في ذلك، قال المشركون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فأوحى الله تعالى إليه ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: 20].
فأخبر جل اسمه أن الأنبياء قبله قد كانت لهم تجارات.
وقد ورد أن الفارق عمر رضي لله عنه كان يقول: ما ميتة بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في أرض الله، وأبتغي من فضل الله.
وكان بعض السلف يقول: الأسواق موائد الله في أرضه فمن أتاها أصاب منها. وقيل: التجارة إمارة والأرباح توفيقات.
وفي شأن ذم التجارة، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التجار هم الفجار إلا من صدق وبر)) وقال صلى الله عليه وسلم كذلك: ((إياكم والأسواق فإن الشيطان قد باض فيها وفرخ))، وكان الضحاك رحمه الله يقول: ما من تاجر ليس بفقيه إلا أكل من الربا شيئاً.
وقد ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: ويل للتجار من لا والله وبلى والله، وكان علي رضي الله عنه يقول: تفقه ثم اتجر، فإن التاجر فاجر، إلا من أخذ الحق وأعطاه.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إياكم ومجالس الأسواق فإنها تلغي وتلهي. وقال الحسن رحمه الله: الأسواق مصلحة للأموال، مفسدة للدين.
وقيل: إياكم وجيران الأغنياء وقرّاء الأسواق وفقهاء الرساتيق.
وقيل: ويلهم ما أغفلهم عما أُعِدَّ لهم.
قال أحد الشعراء:
إذا ما غضب السوقي

فالحبة ترضيه.
وقال آخر:
ما للتجار وللسخاء وإنما
نبت لحومهم على القيراط.
وقال ابن الرومي:

ربِّ أطلق يدي في كل شيخ
ذي رياء بسمته وسكونه.
تاجر فاجر جموح منوع
يرهق الناس باقتضاء ديونه.
قال بعض الأشراف لصديق له: لا تسلم ابنك في شيء من أنواع الكسب، فإنها تورث لا محالة لؤم الطبع وظلمة القلب وقصور الهمة وعي اللسان وسوء الأدب قال أحدهم:
قد ترى يا ابن أبي إسحاق في وُدُّك عُقْده
      وذا السوقي للإخوان سوقي الموده.
وخير ما نختم به هذه المقتطفات قوله عز اسمه ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، ففي الآية دعوة للسعي في مناكب الأرض سعياً للرزق وطلب المعاش مع حسن التوكل وصدق النية وإخلاص العمل.

ورد عن أبي منصور الثعالبي في كتاب ((اللطائف والظرائف))، وعن الشيخ إبراهيم بن محمد البيهقي في كتاب ((المحاسن والمساوئ)) في شأن مدح الفقر:
كان يقال: شعار الصالحين الفقر، ويقال: الفقر لباس الأنبياء.
وفيه يقول البحتري:
فقر كفقر الأنبياء وغربة

وصبابة ليس البلاء بواحد
وكان يقال: الفقر مخف والغنى مثقل.
ويقال: الفقر أخف ظهراً وأقل عدداً.
ومن أحسن ما قيل في مدح الفقر قول أبي العتاهية:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى

وأن الغنى يخشى عليه من الفقر.
وقال محمود الوراق:
ياعائب الفقر ألا تنـزجر

عيب الغنى أكثر لو تعتبر.
من شرف الفقر ومن فضله

على الغنى لو صح منك النظر.
أنك تدعو الله تبغي الغنى

ولست تدعو الله أن تفتقر.
وجاء في شأن ذم الفقر قول سعيد بن عبدالعزيز رحمه الله: ما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
ومن فصول ابن المعتز: لا أدري أيهما أمر، موت الغني أم حياة الفقر؟!.
وكان يقال: الفقر مجمع العيوب. ويقال: الفقر كنز البلاء. ويقال: الفقر هو الموت الأحمر.
قيل: لا فاقرة كالفقر، وفيه قيل: الفقر في الأذن وقر، وفي الكبد عقر، وفي القلب نقر، وفي الجوف بقر.
وأنشد بعضهم:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ حياؤه

وضاقت عليه أرضه وسماؤه.
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً

أقدامه خير له أم وراؤه.
وقال صالح بن عبدالقدوس:
بلوت أمور الناس سبعين حجة

وجربت صرف الدهر في العسر واليسر.
فلم أر بعد الدين خيراً من الغنى

ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر.
وقيل لأعرابي: ما أشد الأشياء؟ قال: كبد جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيّقة.
وقال أوس بن حارثة: خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.
وقال عبد الأعلى القاضي: الفقير مرقته سلقة ورداؤه علقة، وسمكته شلقة.
وقيل: إنه إذا أيسر الفقير ابتلي به ثلاثة:
صديقه القديم يجفوه، وامرأته يتزوج عليها، وداره يهدمها ويبنيها.
وقال أحد الشعراء:
الموت خير للفتى
من أن يعيش بغير مال.
والموت خير للكريم
من الضراعة للرجال.
ونختم هذه القطوف بدعاء رسول الله الهدى المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة الفقراء)) صحيح مسلم.
جاء في كتاب ((تحسين القبيح وتقبيح الحسن)) للثعالبي وكتاب ((المحاسن والمساوئ)) للبيهقي في شأن مدح الدين:
كانت عائشة رضي الله عنها، تستدين من غير حاجة فقيل لها في ذلك، فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان عليه دين وفي نيته قضاؤه فإن الله معه حتى يقضيه، فأنا أحب أن يكون الله معي)).
وقال جعفر بن محمد: المستدين تاجر الله في أرضه.
وفي الأثر: مكتوب على باب الجنة، القرض بثمان عشرة والصدقة بعشرة أمثالها، قيل: ولم ذلك يا رسول؟
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدقة ربما وقعت في يد غني عنها، وصاحب القرض لا يستدين إلا من حاجة وضرورة)).
ويقال: كثرة الدين من علامات المفضلين.
وقال بعض السلف: لأن أقرض مالي مرتين أحب إلي من أن أتصدق به مرة واحدة.
وجاء في شأن ذم الدين: لا وجع كوجع العين ولا غم كغم الدين.
وفي الأثر: الدَّين شين الدِّين.
وكان يقال: صاحب الدَّين ذليل بالنهار، مهموم بالليل.
وقال بعض السلف: الدَّين غل الله في أرضه، فإذا أراد الله أن يذل عبداً جعل منه طوقاً في عنقه.
وقال العتبي: الدَّين عقلة الشريف.
وسأل عمرو بن عبيد عن صديق له فقال: قد توارى من دين ركبه، فقال: ذا داء طالما وفد إلى الكرام.
وقال عبدالملك بن صالح: ما استرق الأحرار بمثل الدَّين.
وقال ابن المعتز: كثرة الدَّين تصيِّر الصادق كاذباً والمنجز مخلفاً.
قال أبو اليقظان: كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يسلِّف الناس فإذا حلَّ ماله ركب حماراً اسمه شارب الريح فيقف على غرمائه ويقول:
بني عمنا ردوا الدراهم إنما
يفرق بين الناس حب الدراهم.
وقال آخر:
الدَّين حقاً كاسمه دوي.
قد يخضع المرء له القوي.
كم من شريف غاظه غبي.
وقال أحد الشعراء:
أرى الغرماء قد كثروا وضجوا
إلى السلطان غير مقصِّدينا.
فإن سألوا اليمين فقد ربحنا
وإن سألوا الشهود فقد خزينا.
ومن أحسن ما قيل في هذا المجال قول الخباز البلدي:
إذا استثقلت أو أبغضت حلفاً
وسرك بعده حتى التناد.
فشرده بقرض دريهمات
فإن القرض مقراض الوداد.
ونختم هذه المنثورات بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، هذا الخطاب يخصكم أيضاً أيها المستدينون، أما أنتم أيها الدائنون فالله عز اسمه يقول: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280].
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق